كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لقد كانوا يدركون قيمة النقلة البعيدة التي نقلها لهم هذا الدين، من وهدة الجاهلية التي كانوا فيها.. وإنها لنقلة بعيدة بالقياس إلى الجاهلية في كل زمان ومكان.. بما فيها جاهلية القرن العشرين.
إن النقلة الأساسية التي تتمثل في هذا الدين هي إعتاق رقاب العباد من العبودية للعباد؛ وتحريرهم من هذه العبودية، وتعبيدهم لله وحده، وإقامة حياتهم كلها على أساس هذا الانطلاق الذي يرفع تصوراتهم، ويرفع قيمهم، ويرفع أخلاقهم.
ويرفع حياتهم كلها من العبودية إلى الحرية:
ثم تجيء الأرزاق المادية والتيسيرات المادية، والتمكين المادي، تبعًا لهذا التحرر وهذا الانطلاق. كما حدث في تاريخ العصبة المسلمة، وهي تكتسح الجاهليات حولها، وتهيمن على مقاليد السلطان في الأرض، وتقود البشرية إلى الله، لتستمتع معها بفضل الله..
والذين يركزون على القيم المادية، وعلى الإنتاج المادي، ويغفلون تلك القيمة الكبرى الأساسية، هم أعداء البشرية الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان.
وهم لا يطلقونها دعوة بريئة؛ ولكنهم يهدفون من ورائها إلى القضاء على القيم الإيمانية، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان- دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية- وتجعل لهم مطالب أساسية أخرى إلى جوار الطعام والمسكن والجنس التي يعيش في حدودها الحيوان!
وهذا الصياح المستمر بتضخيم القيم المادية، والإنتاج المادي، بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم وتصوراتهم كلها.. وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء هذه القيمة، وتعدها قيمة الحياة الكبرى؛ وتنسى في عاصفة الصياح المستمر.. الإنتاج.. الإنتاج.. كل القيم الروحية والأخلاقية؛ وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي.. هذا الصياح ليس بريئًا؛ إنما هو خطة مدبرة لإقامة أصنام تعبد بدل أصنام الجاهلية الأولى؛ وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعًا!
وعندما يصبح الإنتاج المادي صنمًا يكدح الناس حوله ويطوفون به في قداسة الأصنام؛ فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تداس في سبيله وتنتهك.. الأخلاق. الأسرة. الأعراض. الحريات الضمانات... كلها.. كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج يجب أن تداس! فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هي هذه؟ إنه ليس من الحتم أن يكون الصنم حجرًا أو خشبًا. فقد يكون قيمة واعتبارًا ولافتة ولقبًا!
إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل الله ورحمته المتمثلين في هداه الذي يشفي الصدور، ويحرر الرقاب، ويعلي من القيم الإنسانية في الإنسان. وفي ظل هذه القيمة العليا يمكن الانتفاع برزق الله الذي أعطاه للناس في الأرض؛ وبالتصنيع الذي يوفر الإنتاج المادي؛ وبالتيسيرات المادية التي تقلل من شدة الكدح؛ وبسائر هذه القيم التي تدق الجاهلية حولها الطبول في الأرض!
وبدون وجود تلك القيمة العليا وسيادتها تصبح الأرزاق والتيسيرات والإنتاج لعنة يشقى بها الناس؛ لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية، على حساب القيم الإنسانية العلوية.
وصدق الله العظيم: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيلفرحوا هو خير مما يجمعون}..
وفي ظل هذا الحديث عن فضل الله ورحمته، المتمثلين فيما جاء للناس من موعظة وهدى وشفاء لما في الصدور، يتعرض السياق للجاهلية، وهي تزاول حياتها العملية، لا وفق ما جاء من عند الله؛ ولكن وفق أهواء البشر، واعتدائهم على خصائص الله سبحانه، ومزاولتهم أمر التحليل والتحريم فيما رزقهم الله: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالًا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون}.. قل: ماذا ترون في رزق الله الذي أنزله إليكم؟- وكل ما جاء من عند الله في عليائه إلى البشر فهو منزل من ذلك المقام الأعلى- ماذا ترون في هذا الرزق الذي أعطاه لكم، لتتصرفوا فيه وفق إذنه وشرعه، فإذا أنتم- من عند أنفسكم ودون إذن من الله لكم- تحرمون منه أنواعًا وتحلون منه أنواعًا. والتحريم والتحليل تشريع. والتشريع حاكمية. والحاكمية ربوبية، وأنتم تزاولونها من عند أنفسكم: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}.
إنها القضية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم؛ وتواجه بها الجاهلية بين الحين والحين.. ذلك أنها القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا الله. بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة.
إن الاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق يستتبعه حتمًا أن يكون الله هو الرب المعبود؛ وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله.. ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها الله للبشر، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض.. والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود الله- سبحانه- وبأنه الخالق الرازق- كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم المسلمين! ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم الله- كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم المسلمين! وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود الله ومن أنه الخالق الرازق؛ وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير الله تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم! وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك؛ كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغدًا وإلى آخر الزمان. مهما اختلفت الأسماء واللافتات. فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان!
ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون- كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم المسلمين أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به الله. أو كانوا يقولون عنه: شريعة الله!
وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه الله.. وذلك في قوله تعالى: {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون}
فهم كانوا يقولون: إن الله يشاء هذا، ولا يشاء هذا.. افتراء على الله.. كما أن ناسًا اليوم يدعون أنفسهم مسلمين يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون: شريعة الله!
والله يجبههم هنا بالافتراء، ثم يسألهم ماذا تظنون بربكم يوم القيامة وأنتم تفترون عليه: {وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة}..
وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على الله الكذب وتنتظمهم جميعًا.. فما ظنهم يا ترى؟ ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة!! وهو سؤال تذوب أمامه حتى الجبلات الصلدة الجاسية!
{إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون}..
والله ذو فضل على الناس برزقه هذا المادي الذي أودعه هذا الكون من أجلهم؛ وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره؛ والنواميس التي تحكم هذه المصادر، وأقدرهم كذلك على التنويع في أشكاله، والتحليل والتركيب في مادته لتنويع هذه الأشكال.. وكله في الكون وفيهم من رزق الله..
والله ذو فضل على الناس بعد ذلك بزرقه وفضله ورحمته التي أنزلها في منهجه هدى للناس وشفاء لما في الصدور؛ ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم؛ الذي يزاولون به خير ما في إنسانيتهم من قوى وطاقات؛ ومشاعر واتجاهات؛ والذي ينسقون به بين خير الدنيا وخير الآخرة؛ كما ينسقون به بين فطرتهم وفطرة الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه.
ولكن أكثر الناس لا يشكرون على هذا الرزق وذاك.. فإذا هم يحيدون عن منهج الله وشرعه؛ وإذا هم يشركون به غيره.. ثم يشقون في النهاية بهذا كله.. يشقون لأنهم لا ينتفعون بهذا الذي هو شفاء لما في الصدور!
وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة.. إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء.. إنه يدب في القلوب فعلًا دبيب الشفاء في الجسم المعلول! يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب. ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية، فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب. ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية. ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله، وإلى العدل في الجزاء، وإلى غلبة الخير، وإلى حسن المصير..
وإنها لعبارة تثير حشدًا وراء حشد من المعاني والدلائل، تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب!
لا يشكرون.. والله هو المطلع على السرائر، المحيط بكل مضمر وظاهر، الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.. هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق، ليخرج منها إلى طمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه بأنهم في رعايته وولايته، لا يضرهم المكذبون، الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعًا هو السميع العليم ألا أن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون}..
إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه...} شعور مطمئن ومخيف معًا، مؤنس ومرهب معًا.. وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه، شاهد أمره وحاضر شأنه. الله بكل عظمته، وبكل هيبته، وبكل جبروته، وبكل قوته. الله خالق هذا الكون وهو عليه هين. ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان.. الله مع هذا المخلوق البشري. الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها! إنه شعور رهيب. ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن. إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية.. إن الله معها: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه..}
إنه ليس شمول العلم وحده، ولكن شمول الرعاية، ثم شمول الرقابة..
{وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}..
ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء- ومعها علم الله- ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصورًا في علم الله.. ويرتعش الوجدان إشفاقًا ورهبة، ويخشع القلب إجلالًا وتقوى، حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة، ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله.
وفي ظل هذا الأنس، وفي طمأنينة هذا القرب.. يأتي الإعلان الجاهر: {ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم}..
وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون؟ وهم أولياء الله، المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن: {الذين آمنوا وكانوا يتقون}..كيف يخافون وكيف يحزنون، وهم على اتصال بالله لأنهم أولياؤه؟ وعلام يحزنون ومم يخافون، والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة؟ إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل- لا تبديل لكلمات الله-: {ذلك هو الفوز العظيم}..
إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى. والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه.. هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله. لا كما يفهمه العوام، من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء!
وفي ظل هذه الرعاية والحماية لأولياء الله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أولى الأولياء، بما يطمئنه تجاه المكذبين والمفترين، وكانوا في ذلك الوقت هم أصحاب القوة والجاه: {ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعًا هو السميع العليم}..
ويفرد الله بالعزة هنا، ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين- كما في الموضع الآخر- لأن السياق سياق حماية لله لأوليائه. فيفرده بالعزة جميعًا- وهي أصلًا لله وحده، والرسول والمؤمنون يستمدونها منه- ليجرد منها الناس جميعًا، ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس. أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه. فلا يحزن لما يقولون. والله معه وهو السميع العليم. الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد. وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة، ومن عصاة وتقاة، فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه: {ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض}..
وهذه حكمة ذكر من هنا لا ما لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء. فالسياق جار فيها مجراه.
{وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء}..
فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء؛ وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون.}..
ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار: {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون}..